الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير (نسخة منقحة)
أي: وحاملاً رمحاً، وقيل: المعنى: سمعوا فيها تغيظاً وزفيراً للمعذبين كما قال: {لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ} [هود: 106]، وفي واللام متقاربان، تقول: افعل هذا في الله ولله.{وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً} وصف المكان بالضيق للدلالة على زيادة الشدّة، وتناهي البلاء عليهم، وانتصاب {مُقْرِنِينَ} على الحال أي: إذا ألقوا منها مكاناً ضيقاً حال كونهم مقرّنين قد قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالجوامع مصفدين بالحديد، وقيل: مكتفين، وقيل: قرنوا مع الشياطين أي: قرن كل واحد منهم إلى شيطانه، وقد تقدّم الكلام على مثل هذا في سورة إبراهيم {دَعَوْاْ هُنَالِكَ} أي: في ذلك المكان الضيق {ثُبُوراً} أي: هلاكاً. قال الزجاج: وانتصابه على المصدرية أي: ثبرنا ثبوراً، وقيل: منتصب على أنه مفعول له، والمعنى: أنهم يتمنون هنالك الهلاك، وينادونه لما حلّ بهم من البلاء، فأجيب عليهم بقوله: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا} أي: فيقال لهم هذه المقالة، والقائل لهم هم الملائكة أي: اتركوا دعاء ثبور واحد، فإن ما أنتم فيه من الهلاك أكبر من ذلك، وأعظم، كذا قال الزجاج {وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً} والثبور مصدر يقع على القليل والكثير، فلهذا لم يجمع، ومثله ضربته ضرباً كثيراً، وقعد قعوداً طويلاً، فالكثرة ها هنا هي بحسب كثرة الدعاء المتعلق به، لا بحسب كثرته في نفسه، فإنه شيء واحد، والمعنى: لا تدعوا على أنفسكم بالثبور دعاء واحداً، وادعوه أدعية كثيرة، فإن ما أنتم فيه من العذاب أشدّ من ذلك لطول مدّته، وعدم تناهيه، وقيل: هذا تمثيل وتصوير لحالهم بحال من يقال له ذلك من غير أن يكون هناك قول، وقيل: إن المعنى: إنكم وقعتم فيما ليس ثبوركم فيه واحداً بل هو ثبور كثير، لأن العذاب أنواع، والأولى أن المراد بهذا الجواب عليهم: الدلالة على خلود عذابهم، وإقناطهم عن حصول ما يتمنونه من الهلاك المنجي لهم مما هم فيه.ثم وبّخهم الله سبحانه توبيخاً بالغاً على لسان رسوله، فقال: {قُلْ أذلك خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الخلد التي وَعِدَ المتقون} والإشارة بقوله: {ذلك} إلى السعير المتصفة بتلك الصفات العظيمة أي: أتلك السعير خير أم جنة الخلد؟ وفي إضافة الجنة إلى الخلد إشعار بدوام نعيمها، وعدم انقطاعه، ومعنى {التي وُعِدَ المتقون}: التي وعدها المتقون، والمجيء بلفظ خير هنا مع أنه لا خير في النار أصلاً، لأن العرب قد تقول ذلك، ومنه ما حكاه سيبويه عنهم، أنهم يقولون: السعادة أحبّ إليك أم الشقاوة؟ وقيل: ليس هذا من باب التفضيل، وإنما هو كقولك: عنده خير. قال النحاس: وهذا قول حسن. كما قال: ثم قال سبحانه: {كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيراً} أي: كانت تلك الجنة للمتقين جزاء على أعمالهم، ومصيراً يصيرون إليه.{لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ} أي: ما يشاؤونه من النعيم، وضروب الملاذ كما في قوله: {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنفُسُكُمْ} [فصلت: 31]، وانتصاب خالدين على الحال، وقد تقدم تحقيق معنى الخلود. {كَانَ على رَبّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} أي: كان ما يشاؤونه، وقيل: كان الخلود، وقيل: كان الوعد المدلول عليه بقوله: {وُعِدَ المتقون} ومعنى الوعد المسؤول: الوعد المحقق بأن يسأل ويطلب كما في قوله: {رَبَّنَا وَءاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ} [آل عمران: 194]، وقيل: إن الملائكة تسأل لهم الجنة كقوله: {وَأَدْخِلْهُمْ جنات عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ} [غافر: 8]، وقيل: المراد به: الوعد الواجب، وإن لم يسأل.وقد أخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن المنذر، عن ابن عباس: أن عتبة بن ربيعة وأبا سفيان بن حرب والنضر بن الحارث وأبا البحتري والأسود بن عبد المطلب وزمعة بن الأسود، والوليد بن المغيرة وأبا جهل بن هشام وعبد الله بن أبي أمية وأمية بن خلف والعاص بن وائل ونبيه بن الحجاج ومنبه بن الحجاج اجتمعوا، فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد وكلموه وخاصموه حتى تعذروا منه، فبعثوا إليه: إن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك، قال: فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر منك، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا، وإن كنت تطلب به الشرف فنحن نسوّدك، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما بي مما تقولون، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم، ولا الشرف فيكم، ولا الملك عليكم، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً، وأنزل عليّ كتاباً، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً، فبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم»، قالوا: يا محمد، فإن كنت غير قابل منا شيئاً مما عرضنا عليك، أو قالوا: فإذا لم تفعل هذا، فسل لنفسك، وسل ربك: أن يبعث معك ملكاً يصدقك بما تقول، ويراجعنا عنك، وسله أن يجعل لك جناناً وقصوراً من ذهب وفضة تغنيك عما نراك تبتغي، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه، حتى نعرف فضلك ومنزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما أنا بفاعل، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، وما بعثت إليكم بهذا، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً»، فأنزل الله في ذلك {وَقَالُواْ مَّالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام} {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} [الفرقان: 20] أي: جعلت بعضكم لبعض بلاء لتصبروا، ولو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت.وأخرج الفريابي، وابن أبي شيبة في المصنف، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن خيثمة قال: قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: إن شئت أعطيناك من خزائن الأرض، ومفاتيحها ما لم يعط نبيّ قبلك، ولا نعطها أحداً بعدك، ولا ينقصك ذلك مما لك عند الله شيئاً، وإن شئت جمعتها لك في الآخرة، فقال: «اجمعوها لي في الآخرة»، فأنزل الله سبحانه: {تَبَارَكَ الذي إِن شَاء جَعَلَ لَكَ خَيْراً مّن ذلك جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً}.وأخرج نحوه عنه ابن مردويه من طريق أخرى.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق خالد بن دريك عن رجل من الصحابة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «من يقل عليّ ما لم أقل، أو ادعى إلى غير والديه، أو انتمى إلى غير مواليه، فليتبوأ بين عيني جهنم مقعداً»، قيل يا رسول الله: وهل لها من عينين؟ قال: «نعم، أما سمعتم الله يقول: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ}».وأخرج آدم بن أبي إياس في تفسيره عن ابن عباس في قوله: {إِذَا رَأَتْهُمْ مّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ} قال: من مسيرة مائة عام، وذلك إذا أتى بجهنم تقاد بسبعين ألف زمام يشدّ بكل زمام سبعون ألف ملك لو تركت لأتت على كل برّ وفاجر {سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً} تزفر زفرة لا تبقي قطرة من دمع إلاّ بدت، ثم تزفر الثانية، فتقطع القلوب من أماكنها، وتبلغ القلوب الحناجر.وأخرج ابن أبي حاتم عن يحيى بن أسيد: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله: {وَإَذَا أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيّقاً مُّقَرَّنِينَ} قال: «والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط».وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس {دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً} قال: ويلاً {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا} يقول: لا تدعوا اليوم ويلاً واحداً.وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد وعبد بن حميد والبزار وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه، والبيهقي في البعث. قال السيوطي بسندٍ صحيح عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن أوّل ما يكسي حلته من النار إبليس، فيضعها على حاجبيه ويسحبها من خلفه، وذريته من بعده، وهو ينادي: يا ثبوراه، ويقولون: يا ثبورهم حتى يقف على الناس، فيقول: يا ثبوراه، ويقولون: يا ثبورهم، فيقال لهم: {لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً واحدا وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً}» وإسناد أحمد هكذا: حدّثنا عفان عن حميد بن سلمة عن علي بن زيد عن أنس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكره. وفي عليّ بن زيد بن جدعان مقال معروف.وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {كَانَ على رَبّكَ وَعْداً مَسْؤُولاً} يقول: سلوا الذي وعدتكم تنجزوه.
وقال كعب بن زهير: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} هذا الخطاب عامّ للناس، وقد جعل سبحانه بعض عبيده فتنة لبعض، فالصحيح فتنة للمريض، والغنيّ فتنة للفقير، وقيل: المراد بالبعض الأوّل: كفار الأمم، وبالبعض الثاني: الرسل. ومعنى الفتنة: الابتلاء والمحنة. والأوّل أولى، فإن البعض من الناس ممتحن بالبعض مبتلى به؛ فالمريض يقول: لم لم أجعل كالصحيح؟ وكذا كل صاحب آفة، والصحيح مبتلى بالمريض، فلا يضجر منه، ولا يحقره، والغني مبتلى بالفقير يواسيه، والفقير مبتلى بالغنيّ يحسده. ونحو هذا مثله، وقيل: المراد بالآية: أنه كان إذا أراد الشريف أن يسلم، ورأى الوضيع قد أسلم قبله أنف، وقال: لا أسلم بعده، فيكون له علي السابقة والفضل، فيقيم على كفره، فذلك افتتان بعضهم لبعض، واختار هذا الفراء، والزجاج. ولا وجه لقصر الآية على هذا، فإن هؤلاء إن كانوا سبب النزول، فالاعتبار بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ثم قال سبحانه بعد الإخبار بجعل البعض للبعض فتنة: {أَتَصْبِرُونَ} هذا الاستفهام للتقرير، وفي الكلام حذف تقديره، أم لا تصبرون؟ أي: أتصبرون على ما ترون من هذه الحال الشديدة، والابتلاء العظيم.قيل: موقع هذه الجملة الاستفهامية ها هنا موقع قوله: {أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} في قوله: {لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [الملك: 2]، ثم وعد الصابرين بقوله: {وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي: بكل من يصبر ومن لا يصبر، فيجازي كلاً منهما بما يستحقه. وقيل: معنى {أتصبرون}: اصبروا مثل قوله: {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [المائدة: 91] أي: انتهوا.{وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا} هذه المقالة من جملة شبههم التي قدحوا بها في النبوة، والجملة معطوفة على {وَقَالُواْ مَّالِ هذا} أي: وقال المشركون الذين لا يبالون بلقاء الله كما في قول الشاعر: أي: لا أبالي، وقيل: المعنى: لا يخافون لقاء ربهم كقول الشاعر: أي: لم يخف، وهي لغة تهامة. قال الفراء وضع الرجاء موضع الخوف، وقيل: لا يأملون، ومنه قول الشاعر: والحمل على المعنى الحقيقي أولى، فالمعنى: لا يأملون لقاء ما وعدنا على الطاعة من الثواب، ومعلوم أن من لا يرجو الثواب لا يخاف العقاب {لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْنَا الملائكة} أي: هلا أنزلوا علينا، فيخبرونا أن محمداً صادق، أو هلا أنزلوا علينا رسلاً يرسلهم الله {أَوْ نرى رَبَّنَا} عياناً، فيخبرنا بأن محمداً رسول، ثم أجاب سبحانه عن شبهتهم هذه، فقال: {لَقَدِ استكبروا فِي أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً} أي: أضمروا الاستكبار عن الحق والعناد في قلوبهم كما في قوله: {إِن في صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم ببالغيه} [غافر: 56]، والعتوّ مجاوزة الحد في الطغيان، والبلوغ إلى أقصى غاياته، ووصفه بالكبر لكون التكلم بما تكلموا به من هذه المقالة الشنيعة في غاية الكبر والعظم، فإنهم لم يكتفوا بإرسال البشر حتى طلبوا إرسال الملائكة إليهم، بل جاوزوا ذلك إلى التخيير بينه وبين مخاطبة الله سبحانه، ورؤيته في الدنيا من دون أن يكون بينهم وبينه ترجمان، ولقد بلغ هؤلاء الرذالة بأنفسهم مبلغاً هي أحقر وأقل وأرذل من أن تكون من أهله، أو تعدّ من المستعدّين له، وهكذا من جهل قدر نفسه، ولم يقف عند حدّه، ومن جهلت نفسه قدره رأى غيره منه ما لا يرى.وانتصاب {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة} بفعل محذوف أي: واذكر يوم يرون الملائكة رؤية ليست على الوجه الذي طلبوه، والصورة التي اقترحوها، بل على وجه آخر، وهو يوم ظهورهم لهم عند الموت، أو عند الحشر، ويجوز أن يكون انتصاب هذا الظرف بما يدلّ عليه قوله: {لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لّلْمُجْرِمِينَ} أي: يمنعون البشرى يوم يرون، أو لا توجد لهم بشرى فيه، فاعلم سبحانه بأن الوقت الذي يرون فيه الملائكة، وهو وقت الموت، أو يوم القيامة قد حرمهم الله البشرى.قال الزجاج: المجرمون في هذا الموضع الذين اجترموا الكفر بالله {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} أي: ويقول الكفار عند مشاهدتهم للملائكة، حجراً محجوراً، وهذه كلمة كانوا يتكلمون بها عند لقاء عدوّ وهجوم نازلة يضعونها موضع الاستعاذة، يقال للرجل: أتفعل كذا؟ فيقول: حجراً محجوراً أي: حراماً عليك التعرّض لي. وقيل: إن هذا من قول الملائكة، أي: يقولون للكفار: حراماً محرّماً أن يدخل أحدكم الجنة، ومن ذلك قول الشاعر: أي: أصبحت أسماء حراماً محرّماً، وقال آخر: وقد ذكر سيبويه في باب المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها هذه الكلمة، وجعلها من جملتها. {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُوراً} هذا وعيد آخر، وذلك أنهم كانوا يعملون أعمالاً لها صورة الخير: من صلة الرحم، وإغاثة الملهوف، وإطعام الطعام وأمثالها، ولم يمنع من الإثابة عليها إلاّ الكفر الذي هم عليه، فمثلت حالهم وأعمالهم بحال قوم خالفوا سلطانهم، واستعصوا عليه، فقدم إلى ما معهم من المتاع، فأفسده، ولم يترك منها شيئاً، وإلاّ فلا قدوم ها هنا. قال الواحدي: معنى قدمنا: عمدنا وقصدنا، يقال: قدم فلان إلى أمر كذا إذا قصده أو عمده، ومنه قول الشاعر: وقيل: هو قدوم الملائكة أخبر به عن نفسه تعالى، والهباء واحده هباءة، والجمع أهباء. قال النضر بن شميل: الهباء: التراب الذي تطيره الريح كأنه دخان.وقال الزجاج: هو ما يدخل من الكوّة مع ضوء الشمس يشبه الغبار، وكذا قال الأزهري: والمنثور المفرق، والمعنى: أن الله سبحانه أحبط أعمالهم حتى صارت بمنزلة الهباء المنثور، لم يكتف سبحانه بتشبيه عملهم بالهباء حتى وصفه بأنه متفرّق متبدّد وقيل: إن الهباء: ما أذرته الرياح من يابس أوراق الشجر، وقيل: هو الماء المهراق. وقيل: الرماد. والأوّل هو الذي ثبت في لغة العرب، ونقله العارفون بها. ثم ميز سبحانه حال الأبرار من حال الفجار، فقال: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً} أي: أفضل منزلاً في الجنة {وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} أي: موضع قائلة، وانتصاب {مستقرًّا} على التمييز. قال الأزهري: القيلولة عند العرب: الاستراحة نصف النهار إذا اشتدّ الحرّ، وإن لم يكن مع ذلك يوم. قال النحاس: والكوفيون يجيزون: العسل أحلى من الخلّ.وقد أخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ} الآية قال: عيسى، وعزير، والملائكة.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {قَوْماً بُوراً} قال: هلكى.وأخرج عبد الرزاق وابن جرير عن الحسن في قوله: {وَمَن يَظْلِم مّنكُمْ} قال: هو الشرك.وأخرج ابن جرير عن ابن جريج قال: يشرك.وأخرج عبد بن حميد، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن قتادة: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق} يقول: إن الرسل قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بهذه المنزلة يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} قال: بلاء.وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والبيهقي في الشعب عن الحسن: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً} قال: يقول الفقير: لو شاء الله لجعلني غنياً مثل فلان، ويقول السقيم: لو شاء الله لجعلني صحيحاً مثل فلان، ويقول الأعمى: لو شاء الله لجعلني بصيراً مثل فلان.وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {وَعَتَوْ عُتُوّاً كَبِيراً} قال: شدّة الكفر.وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد في قوله: {يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة} قال: يوم القيامة.وأخرج ابن أبي حاتم، عن عطية العوفيّ نحوه.وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم، عن مجاهد: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} قال: عوذاً معاذاً، الملائكة تقوله. وفي لفظ قال: حراماً محرّماً أن تكون البشرى في اليوم إلاّ للمؤمنين.وأخرج سعيد بن منصور وعبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم من طريق عطية العوفيّ، عن أبي سعيد الخدري في قوله: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} قال: حراماً محرّماً أن نبشركم بما نبشر به المتقين.وأخرج عبد الرزاق وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الحسن وقتادة: {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً} قالا: هي كلمة كانت العرب تقولها، كان الرجل إذا نزلت به شدّة قال: حجراً محجوراً حراماً محرّماً.وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن مجاهد {وَقَدِمْنَا إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ} قال: عمدنا إلى ما عملوا من خير ممن لا يتقبل منه في الدنيا.وأخرج سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن عليّ بن أبي طالب في قوله: {هَبَاءً مَّنثُوراً} قال: الهباء شعاع الشمس الذي يخرج من الكوّة.وأخرج عبد الرزاق والفريابي وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عليّ بن أبي طالب قال: الهباء وهيج الغبار يسطع، ثم يذهب، فلا يبقي منه شيء، فجعل الله أعمالهم كذلك.وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منها الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئاً.وأخرج ابن جرير وابن المنذر عنه قال: هو ما تسفي الريح وتبثه.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً قال: هو الماء المهراق.وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عنه أيضاً: {خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً} قال: في الغرف من الجنة.وأخرج ابن المبارك في الزهد، وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: لا ينصرف النهار من يوم القيامة حتى يقيل هؤلاء وهؤلاء، ثم قرأ: {أصحاب الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}.
|